Admin Admin
عدد المساهمات : 359 تاريخ التسجيل : 11/01/2010
| موضوع: الموسوسة الخميس يناير 28, 2010 4:27 pm | |
| الموسوسة
لا تدري مي كم من الوقت قد مضي عليها وهي بغرفة الحمام. كل ذهنها مشغول بمتابعة عملية الاستحمام التي تجري بدقة وعلى حسب طقوس ثابتة وذلك لكي تطمئن نفسها على إزالة كل أثر لجر ثوم أو نجاسة أو تلوث. ولكي تحصل على مثل هذه النتيجة فهي تتبع روتيناً ثابتاً يؤكد لها أن أي بوصة في جسدها قد طالتها عملية النظافة. لذلك هي تبدأ النظافة بالجانب الأيمن من جسمها بدأ بقدمها الأيمن ثم تواصل الصعود إلي الجانب الأيمن من عنقها يلي ذلك الجانب الأيسر إلى العنق ومن ثم تنظف وجهها ورأسها وشعرها. لكن العملية لا تسير بصورة مقنعة لمي لعوامل الشك التي تعتريها فغالباً ما تشك أنها قد نسيت مساحة ما مما يستدعي إعادة العملية مرة أخري للاطمئنان. وهكذا يمر الوقت ومي تجاهد نفسها لإتمام العملية بصورة متكاملة. هذا ليس فقط قاصراً على عملية الاستحمام بل أيضاً عمليتا الوضوء والصلاة اللتان تتعرضان لنفس الشكوك التي تقود إلى التكرار.
" يا بنت يا مي...ما خلاص تخرجي من الحمام. أخواتك مستنين يروحوا الحمام كمان عشان يحصلوا المدارس.. الله يرضي عليك كملي"
هكذا أتاها صوت والدتها وهي تستغيث بها لكي تخرج. هم دائماً يستعجلونها بهذه الطريقة مما لا يسمح لها بالاطمئنان على إكمال عملية الاستحمام و مما يجعلها تفكر في إعادتها مرة أخرى عندما يخلو الحمام.
من عادة مي أن تأخذ حمامها يوميا في المساء بعد انتهائها من مذاكرتها وبعد أن يذهب الجميع إلى فراشهم للنوم. في مثل هذا الوقت تستطيع أن تقضي ما شاء لها من الوقت ولكنها اضطرت هذا الصباح لاستعمال الحمام لأنها لم تستطع مقاومة النوم الليلة السابقة عندما قررت أن تستلقي على فراشها لعدة دقائق لتريح جسدها المنهك إلا أنها استغرقت في نومها إلى الصباح.
مي تبلغ الثامنة عشر من عمرها وهي طالبة جامعية في عامها الثاني بكلية الصيدلة تعيش مع أسرتها المكونة من الأب والأم وشقيق وشقيقة يصغرانها في السن. وهي طالبة مجدة في دراستها تقضي معظم وقتها في حجرتها تراجع دروسها وإعداد واجباتها. ليس لها صديقات بل تفضّل عدم الاختلاط بالغرباء. لها عادات وتصرفات غريبة منها هوسها بالنظافة والغسيل وذلك لخوفها من النجاسة والمرض ولذلك تتفادى كل ما تعتقد انه نجس أو ملوث بالقاذورات أو الجراثيم. فهي لا تشارك أسرتها في استعمال نفس الأكواب أو الأطباق ولا تترك أحدا يستعمل أوانيها أو حتى يلمس ملابسها لأن ذلك قد يضطرها لإعادة غسلها.
وهي كذلك تقضي وقتاً طويلاً في المذاكرة لضعف تركيزها وبطأ استيعابها و للوساوس التي تنتابها وتفرض نفسها عليها. وساوس في شكل أفكار أو صور ذهنية ذات طبيعة سخيفة أو تافهة أو شاذة. هي تحاول التخلص من هذه الوساوس بالتجاهل أو الطرد أو التحييد بعمل ما ولكن بدون أي فائدة وهذا ما يزيد من قلقها وألمها وخاصة عندما تكون ذات طبيعة جنسية أو دينية أو تتعلق بالذات اللألاهية.
الأم حاجة سعدية متفهمة لمعاناة وتصرفات ابنتها مي ولديها شعور بالذنب لأن مي ورثت عنها هذا المرض اللعين. منذ سنوات كانت هي تعاني من نفس الأعراض. كان الجميع يقول عنها أنها موسوسة وكادت وسوستها تكلفها حياتها الزوجية إذ كان زوجها حاج إبراهيم يتضايق كثيراً من هوسها بالنظافة ويهدد بأن يترك لها المنزل. كانت تقضي معظم يومها في المسح والغسيل وإعادة ترتيب محتويات غرف المنزل. كانت لا تطمئن على أي شيء فهي تراجع وتعيد فعل الشيء مرات. كانت لا تأكل أو تشرب عند الغير وعندما يزورها أحد تعيد غسل ما استعمله من إناء مستعينة بالمطهرات أحيانا. كانت كثيرة القلق على أفراد أسرتها وكانت تتوهم أن مكروها قد يصيبهم وهم بعيدين عنها وكم من مرة اتصلت بزوجها في العمل لتتأكد انه فعلاً سليم ولم يتعرض لحادث كما كانت تتوجس. وكان في الماضي ينتابها شعور مخيف بأنها قد تفقد سيطرتها على نفسها وتؤذي احد الأطفال بسكين المطبخ ولذلك كانت تبعدهم عن المطبخ وهي تعد الطعام أو تبعد السكين عندما يكون الأطفال بالقرب منها.
لم يترك حاج إبراهيم شيء إلا حاوله مع زوجته فقد أحضر لها المقرئين الذين كانوا يتلون عليها آيات من القرآن وكذلك الذين يتعاملون مع العين والسحر والجن وأخيراً الأطباء النفسيين. في السنوات الأخيرة بحمد الله خفت الأعراض كثيرا وبدأت الأم تغير الكثير من تصرفاتها وانحسرت عنها معظم الأعراض.
و لكون مي دارسة علوم فهي تعلم أنها مصابة بداء الوسواس القهري. شخص حالتها أحد الأطباء وهي من نفسها اطلعت على عديد من المراجع للتعرف على مرضها. منذ فترة وهي تتناول الأدوية بانتظام إلا أنها لم تستفد الفائدة التي كانت تتوقعها. تناول الأدوية يخفف عليها حالة القلق ويقلل من الوساوس ولكن ترجع الأعراض لحدتها متى قللت الجرعة أو توقفت عن الاستعمال.
احد أساتذة مي اقترح عليها أن تراجع احد الأطباء النفسيين الذين يمارسون العلاج النفسي والسلوكي في آن واحد. هذا الطبيب ابتدأ معها برنامجاً علاجياً سلوكياً يساعدها على السيطرة على الوساوس بإيقافها لحظة إحساسها بها وكذلك برنامجا سلوكياً آخر تعرض فيه نفسها أولاً في خيالها ومن ثم في الواقع بالتدريج على الأشياء والأماكن التي تتخوف منها ولذلك كانت تعمد إلي تفاديها. وكذلك برنامجا يساعدها على السيطرة على أي نزعة لممارسة أي فعل أو طقوس كانت تقوم بها بصورة قهرية. تمارين الاسترخاء وممارسة التأمل واليوقا ساعدتها كثيرا على السيطرة على قلقها المستمر.
الآن مضت حوالي ثلاثة أشهر على مي وهي تمارس هذه التمارين بالإضافة إلى تناول أدويتها بانتظام. هي تشعر أن الأعراض انحسرت بنسبة ثمانين في المائة. تشعر كأنها ولدت من جديد وأنها تذوق طعم الحياة اللذيذ. بدأت تكون العديد من الصداقات وتهتم بالحياة الاجتماعية. والشيء المثير حقا أنها بدأت تستعمل نفس الأكواب والأطباق التي يستعملها بقية أفراد الأسرة وكذلك تقضي وقتا معقولاً داخل الحمام بدون حاجة لتكرار عملية الغسيل.
لم تنس مي والدتها فهي تعرف أن الوالدة تعاني من نفس المرض وان خفت حدته أخيرا. دربت مي والدتها على نفس التمارين وكثيراً ما تراهما معا وهما يمارسان التمارين باستمتاع. لقد تغير جو الأسرة كثيراً وحمد حاج إبراهيم الله كثيراً على رفعه البلاء عن أسرته. لقد استجاب الله لصلاته ودعائه وهو على ذلك من الشاكرين.
| |
|