الندى
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 18/01/2010 العمر : 36
| موضوع: ترجمة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الأربعاء أكتوبر 20, 2010 10:25 pm | |
|
تُعتبر عائشة -رضي الله عنها- مِن أبرز الصحابة الكرام، وأسماهم مكانةً، وأعلاهم شأنًا، وأكثرهم إطلاعًا على أحوال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وشمائله.
حظيتْ بمكانة خاصَّة عند النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم تحظَ بها غيرُها من أزواجه، وذلك لعدة اعتبارات- كما سنرى لاحقًا.
كانت -رضي الله عنها-: "بحرًا زاخرًا في الدِّين، وخزانة حِكمة وتشريع، وكانت مدرسةً قائمة بذاتها، حيثما سارتْ يسير في ركابها العِلم والفضل والتُّقى"[1].
وسنحاول ملامسة بعضٍ من جوانب شخصيتها من خلال المحاور التالية: المبحث الأول: اسمها ونسبها. المبحث الثاني: زواجها. المبحث الثالث: فضلها ومكانتها عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. المبحث الرابع: حادثة الإفك. المبحث الخامس: بعض مناقبها. المبحث السادس: ثقافتها ومكانتها العلمية. المبحث السابع: الحب والغَيْرة في حياة عائشة رضي الله عنها. المبحث الثامن: مرضها ووفاتها رضي الله عنها. والله نسأل التوفيق.
المبحث الأول: اسمها ونسبها: عائشة: هي بنت أبي بكر الصِّدِّيق بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي[2]، القرشية التيمية، المكيَّة النبوية، أم المؤمنين، زوجُ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أفقه نساء الأمَّة على الإطلاق[3]، وأمُّها أمُّ رومان بنت عمير بن عامر بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة[4].
وقد أشرقتْ أنوار بيت الصِّدِّيق، وأمِّ رومان بمولد عائشة بعدَ المبعث بأربع سنين أو خمس.
المبحث الثاني: زواجها: كانت مُسمَّاةً لجبير بن مطعم، فخطبها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعد أن سلَّها أبوها من أهله.
وقد أورد صاحبُ الطبقات عن ابن عباس قال: خطب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى أبي بكر الصديق عائشة، فقال أبو بكر: يا رسول الله، قد كنتُ وعدتُ بها أو ذكرتها لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لابنه جبير، فدعني حتى أسلَّها منهم، ففعل، ثم تزوجها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت بِكرًا[5].
يتبيَّن من خلال المصادر التاريخية: أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- تزوجها في شوال سَنة عشر، أو إحدى عشرة من النبوَّة بعد سَوْدة بعام، وهي بنت ستِّ سنين، وبقيت عنده تِسع سنين، ولم يتزوَّج بِكرًا غيرها.
قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تزوَّجَني رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- متوفى خديجة، قبل الهجرة، وأنا ابنة ستّ، وأدخلتُ عليه وأنا ابنة تسع سنين، جاءني نِسوة، وأنا ألعب على أرجوحة، وأنا مجممة فهيَّأنني وصنعنني، ثم أتين بي إليه. قال عروة: ومكثتْ عنده تسع سنين[6].
ولقد كان لزواجه -صلَّى الله عليه وسلَّم– بعائشة فوائد جمَّة؛ أهمها: 1- لتمتين أواصر المحبَّة والأخوَّة مع ساعدِه الأيمن في نشْر هذه الدعوة. 2- لأنها نشأتْ في بيت مسلم منذ نعومة أظفارها، ولكي تبقى أطولَ فترة ممكنة في مدرسة النبوَّة، تتفقَّه في أحكامها وتعاليمها؛ لتنقلَ هذه الأحكام -بدورها- إلى أخواتها المسلمات[7].
المبحث الثالث: فضلها ومكانتها عند رسول الله: أنزلها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من نفسه أعزَّ منزلة، وفضلها على جميع النِّساء؛ حيث قال -عليه الصلاة والسلام: «فضْلُ عائشة على النساء، كفضْل الثريد على سائر الطعام»[8]، حتى زواجه منها كان لحِكمة إلهيَّة، فقد رآها في المنام مرَّتين، وهو الصادق الأمين الذي لا ينطِق عن الهوى.
وممَّا يدلُّ على مكانتها أكثرَ في نفس النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما رواه الشيخان عن عمرو بن العاص: «أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيتُه فقلت: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: (عائشة)، فقلت: مِن الرجال؟ فقال: (أبوها)، قلت: ثم مَن؟ قال: (ثم عمر بن الخطاب)، فعدَّ رجالاً»[9].
وتُفصِح عائشة -رضي الله عنها- بنفسها عن فضلها، وعن تلك المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة التي كانت تحتلُّها في نفس رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتقول: "فُضلتُ على نساء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعشر، قيل: ما هنَّ يا أمَّ المؤمنين؟ قالت: لم ينكح بِكرًا قط غيري، ولم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله - عز وجل - براءتي من السماء، وجاءه جبريل بصورتي من السماء في حريرة، وقال: تزوجْها، فإنها امرأتك، فكنتُ أغتسل أنا وهو من إناء واحد، ولم يكن يفعل ذلك بأحد مِن نسائه غيري، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، ولم يكن ينزل عليه وهو مع أحد من نسائه غيري، وقَبَض الله نفسه وهو بين سحري ونَحْري، ومات في الليلة التي يدور عليَّ فيها، ودُفِن في بيتي"[10].
المبحث الرابع: حادثة الإفك: لم تَسلَمْ الصِّدِّيقة الطاهرة من القَذْف، على ما عُرِف من طهرها وعفَّتِها ونبل أخلاقها! فقد تعرَّضتْ لإساءة قاسية أُصيبت بالمرض إزاءها، وعانت الكثير حتى أنزل الله - عز وجل - براءتها، وها هي الصِّدِّيقة تحكي لنا قصتها؛ كما ورد عند الإمام البخاري -رحمه الله- الذي قال: حدَّثَنا عبدالعزيز بن عبدالله، حدَّثَنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدَّثَني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقَّاص، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قال لها أهلُ الإفك ما قالوا، وكلهم حدَّثَني طائفةً من حديثها، وبعضهم كان أوْعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كلِّ رجل منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدِّق بعضًا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض.
قالوا: قالت عائشة: «كان رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا أراد سفرًا أقْرع بين أزواجه، فأيهنَّ خرج سهمها خرج بها رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجتُ مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعدَما أُنزل الحِجاب، فكنت أُحْمَل في هودجي وأنزل فيه، فسِرْنا حتى إذا فرغ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من غزوته تلك وقَفَل، دنوْنا من المدينة قافلين آذَن ليلةً بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيتُ حتى جاوزتُ الجيش، فلما قضيت شأني أقبلتُ إلى رحْلي فلَمسْتُ صدري، فإذا عِقدٌ لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمستُ عقدي فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يُرحِّلوني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنتُ أركب عليه، وهم يَحْسبُون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خِفافًا لم يَهْبُلْنَ، ولم يغشهنَّ اللحم، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خِفَّة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدتُ عِقدي بعدما استمرَّ الجيش، فجئتُ منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيمَّمتُ منزلي الذي كنتُ به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتْني عيني فنِمت، وكان صفوان بن المعطَّل السُّلمي، ثم الذكواني، من وراء الجيْش، فأصبح عند منزلي، فرأى سوادَ إنسان نائم فعَرَفني حين رآني، وكان رآني قبل الحِجاب، فاستيقظتُ باسترجاعه حين عَرَفني فخمَّرْتُ وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمْنا بكلمة، ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطِئ على يدِها، فقمتُ إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش موغرين في نَحْر الظهيرة، وهُم نزول.
قالت: فهَلَك مَن هَلَك، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفك عبدَالله بن أُبيِّ بن سلول»، قال عروة: أُخبرت أنه كان يُشاع ويُتحدَّث به عنده فيقرُّه، ويستمعه ويستوشيه، وقال عروة أيضًا: لم يسمَّ من أهل الإفك أيضًا إلا حسَّان بن ثابت، ومِسْطح بن أثاثة، وحَمْنة بنت جَحْش في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنَّهم عصبة - كما قال الله تعالى - وإنَّ كبر ذلك يُقال له عبدالله بن أُبيِّ بن سلول.
قال عروة: كانت عائشة تكره أن يُسبَّ عندها حسَّان، وتقول: إنه الذي قال: فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي *** لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ قالت عائشة: «فقدِمْنا المدينة، فاشتكيتُ حين قدمتُ شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعرُ بشيء من ذلك، وهو يريبني في وَجَعِي أني لا أعرف مِن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- اللُّطْفَ الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيسلِّم، ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك يُريبني ولا أشعر بالشرِّ، حتى خرجتُ حين نقهتُ، فخرجت مع أمِّ مِسْطح قِبَل المناصع -وكان متبرزَنا، وكنا لا نخرج إلاَّ ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكُنف قريبًا من بيوتنا، قالت: وأمرُنا أمرُ العرب الأُول في البرية قبلَ الغائط، وكنا نتأذَّى بالكنف أن نتخذها عندَ بيوتنا- قالت: فانطلقت أنا وأمُّ مِسْطح -وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمُّها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مِسْطح بن أُثَاثة بن عباد بن المطلب- فأقبلت أنا وأمُّ مسطح قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أمُّ مسطح في مِرْطها، فقالت: تَعِس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلتِ، أتسُبِّين رجلاً شهد بدرًا، فقالت: أيْ هَنْتَاه، ولم تسمعي ما قال؟! قالت: وقلت: ما قال؟ فأخبرتْني بقول أهل الإفك، قالت: فازددتُ مرضًا على مرضي، فلما رجعتُ إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فسلَّم، ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبرَ مِن قِبَلهما، قالت: فأذن لي رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقلت لأمي: يا أُمَّتاه، ماذا يتحدَّث الناس؟ قالت: يا بُنيَّة، هوِّني عليك، فوالله لقلَّما كانتِ امرأة قط وضيئة عند رجل يحبُّها لها ضرائر إلاَّ كثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله! أو لقد تحدَّث الناس بهذا؟!
قالت: فبكيتُ تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دَمْع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحتُ أبكي، قالت: ودعا رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلْبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فِراق أهله، قالت: فأمَّا أسامة فأشار على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالذي يعلم مِن براءة أهلِه، وبالذي يعلم لهم في نفسِه، فقال أسامة: أهلك، ولا نعلم إلاَّ خيرًا، وأما عليٌّ فقال: يا رسول الله، لم يضيِّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلِ الجاريةَ تصدقْكَ، قالت: فدعا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بَرِيرة، فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يَريبك؟ قالت له بريرة: والذي بعَثَك بالحق ما رأيتُ عليها أمرًا قط أَغْمِصه، غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثة السِّنِّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجنُ فتأكله.
قالت: فقام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من يومه فاستعذر مِن عبدالله بن أُبيٍّ وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، مَن يَعذِرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي؟ والله ما علمتُ على أهلي إلاَّ خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاَّ خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي.
قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: أنا يا رسول الله، أَعذِرك، فإن كان من الأوس ضربتُ عنقَه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرْتَنا ففعلنا أمرَك، قالت: فقام رجل من الخزرج وكانت أمُّ حسان بنت عمه من فَخِذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيِّد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملتْه الحمية، فقال لسعد: كذبتَ، لعَمْرُ الله لا تقتله، ولا تقدِر على قتْله، ولو كان مِن رهطك ما أحببت أن يُقتل، فقام أُسَيْد بن حُضَير -وهو ابن عم سعد- فقال لسعد بن عبادة: كذبتَ، لعمر الله لنقتلنَّه، فإنك منافِق تجادل عن المنافقين، قالت فثار الحيَّان -الأوس والخزرج- حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قائم على المنبر، قالت فلم يزلْ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُخفِّضهم، حتى سكتُوا وسَكَتَ.
قالت: فبكيتُ يومي ذلك كلَّه لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظنُّ أنَّ البكاء فالِق كبدي، فبينا أبواي جالِسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنتْ عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلستْ تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - علينا، فسلَّم، ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلَها، وقد لبث شهرًا لا يوحَى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهَّد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين جلس، ثم قال: أمَّا بعد يا عائشة، إنَّه بلغني عنك كذا وكذا، فإنْ كنت بريئة فسيبرِّئُك الله، وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإنَّ العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه.
قالت: فلمَّا قضى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مقالتَه قَلَص دمعي، حتى ما أحسُّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجِبْ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عنِّي فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقلت لأمي: أجيبي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما قال، قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقلت -وأنا جارية حديثة السِّن، لا أقرأ من القرآن كثيرًا- إني والله، لقد علمتُ لقد سمعتم هذا الحديثَ حتى استقرَّ في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلتُ لكم: إني بريئة، لا تُصدِّقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني منه بريئة- لتصدِّقُني، فوالله لا أجد لي ولكم مَثَلاً إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحولتُ واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأنَّ الله مبرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله منزل في شأني وحيًا يتلَى، لَشَأْني في نفسي كان أحقرَ من أن يتكلم الله فيَّ بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في النوم رؤيا يُبرِّئني الله بها، فوالله ما رام رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مجلسَه، ولا خرج أحدٌ من أهل البيت حتى أُنزِل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنَّه ليتحدَّر منه من العرق مِثلُ الجُمَان وهو في يوم شاتٍ مِن ثِقَل القول الذي أُنزل عليه.
قالت: فسُرِّي عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو يضحك، فكانتْ أوَّل كلمة تكلَّم بها أن قال: يا عائشة، أمَّا الله فقد برَّأك، قالت: فقالت لي أمِّي: قُومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلاَّ الله -عز وجل- قالت: وأنزل الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١١﴾ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴿١٢﴾ لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَـٰئِكَ عِندَ اللَّـهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴿١٣﴾ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٤﴾ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ ﴿١٥﴾ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴿١٦﴾ يَعِظُكُمُ اللَّـهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿١٧﴾ وَيُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١٨﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿١٩﴾ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّـهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿٢٠﴾ } [النور: 11-20]، ثم أنزل الله هذا في براءتي.
قال أبو بكر الصِّدِّيق - وكان يُنفق على مسطح بن أُثاثة لقرابته منه وفقره -: واللهِ لا أُنفِق على مسطح شيئًا أبدًا بعدَ الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكر الصِّدِّيق: بلى والله، إني لأحبُّ أن يغفرَ الله لي، فرجع إلى مِسْطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزِعها منه أبدًا.
قالت عائشة: وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سأل زينبَ بنت جحش عن أمْري فقال لزينب: ماذا علمتِ أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحْمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فعَصَمها الله بالورع، قالت: وطفقتْ أختُها حَمْنة تحارِب لها، فهلكتْ فيمَن هلَك.»
قال ابن شِهاب: "فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرَّهْط، ثم قال عروة: قالت عائشة: والله، إنَّ الرجل الذي قِيل له ما قيل ليقولُ: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفتُ من كنف أنثى قط، قالت: ثم قُتِل بعدَ ذلك في سبيل الله[11] ".
وهكذا فقدِ انتصرت عائشة في حديث الإفك، وبرَّأها الله -تعالى- مما قالوا بالقرآن الكريم، وقدرت عائشة هذا الانتصارَ حقَّ قدره، وآبتْ إلى بيتها أوبةَ الظافر المتين، وظلَّت أعوامًا مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في نِعمة وسعادة وسرور، يتنزل الوحي من الله في بيتها، ويُقرئها جبريل السلام[12]، ويحبُّها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُعظِّمها المسلمون[13].
المبحث الخامس: بعض مناقبها:تميَّزت عائشة -رضي الله عنها- بفضائل عالية، وأخلاق سامية، فكانت -رضي الله عنها- شديدةَ الحياء، فمَن لا حياءَ له لا دِين له، مِن هذا المنطلق أعطتْ عائشة مثالاً رائعًا يُحتذَى به، كانت تحتجب مِن حَسَن وحسين لفرْط حيائها، حتى قال ابن عباس: "إنَّ دخولهما عليها لَحِلٌّ" [14].
ويُعدُّ تواضعها -رضي الله عنها- من مكارم الأخلاق التي تتمتَّع بها، وممَّا يدلُّ على ذلك: أنَّ داخلاً دخل على عائشة، وهي تخيط نقبة لها، فقال: يا أمَّ المؤمنين، أليس قد أكثر الله الخير؟! قالت: دعْنا منك، لا جديدَ لِمَن خَلَق له[15].
وقد أوصتْ -رضي الله عنها- عند وفاتها: "أن لا تتبعوا سريري بنار، ولا تجعلوا تحتي قطيفة حمراء"[16].
عُرِفت -رضي الله عنها- بزهدها وكرمها وجرْأتها في الحق وجهادها، وأعطتِ القدوة في كل ذلك -رضي الله عنها- والشواهد كثيرة، لكنَّ المجال لا يسعفني هنا لإيراد المزيد منها، ولذلك سأنتقل إلى المبحث التالي.
المبحث السادس: ثقافتها - رضي الله عنها - ومكانتها العلمية: لقد أهَّلتْها نشأتُها في بيت أول مَن آمن بالدعوة المحمدية، وانتقالها فيما بعدُ إلى بيت صاحب الرِّسالة -صلَّى الله عليه وسلَّم- حيث اكتمل نضجُها، وتفتَّحت آفاقها المعرفية، واستوى تكوينها، كلُّ ذلك أهَّلها لتكونَ عالِمةً بأحكام الدِّين، وقمَّة سامقة فيما يتعلَّق بالسُّنة، ورواية الحديث، ويدلُّ على ذلك مروياتها في الكتب السِّتَّة، وغيرها من مصنفات الحديث.
تُعدُّ -رضي الله عنها- من المكثرين، ويبلغ مسندُها ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتَّفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستِّين[17].
ومن مزاياها: أنَّها كانت تجتهد في بعض المسائل، وتستدرك بها على علماء الصحابة، وفي ذلك ألَّف الإمام الزركشي كتابًا خاصًّا، سمَّاه "الإجابة لإيراد ما استدركتْه عائشة على الصحابة".
كانتْ غزيرةَ العلم، موسوعية المعارف، عن أبي موسى الأشعري قال: "ما أَشْكَل علينا -أصحابَ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم- حديثٌ قطُّ، فسألنا عائشة عنه إلاَّ وجدْنا عندها منه علمًا"[18].
وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: "ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بسُنن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا أفقهَ في رأي إن احتُيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلتْ، ولا فريضة- مِن عائشة"[19].
وغيرُ هذه الشواهد كثيرة، وهي لا تؤكِّد إلا حقيقةً واحدة، وهي أنَّ أم المؤمنين عائشة هي -بحقٍّ- أفقهُ نساء الأمَّة على الإطلاق، وأغزرهنَّ علمًا.المبحث السابع: الحب والغَيْرة في حياة عائشة: لقد كانت -رضي الله عنها- متميِّزة بعِطر الحبِّ الذي يغمرها في بيته -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى إنَّها ما كانت تحدِّث عنه إلاَّ بذلك التعبير الشفَّاف "حِبِّي رسول الله قال كذا"، وكانت عائشة واثقةً من مكانتها في قلْب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأنَّها هي الأثيرة عنده.
ولكنَّها في كلِّ الأحوال أنثى، كانت تتملَّكها الغَيْرة من أن ينبض هذا القلْب الكبير بحب آخَرَ، فقد كانتْ في بيت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- تنصت إليه بإمعان، وتَعقِل ما يقول، وترفع إليه حوائجَ ذوي الحاجات، وتردُّ عليهم بما يُريد، وتنام مبكِّرة بليل، ويَبيت يصلِّي قريبًا منها، وإذا ما أراد السجود غمزَها لتتنحَّى قليلاً؛ كي ما يجد موضعًا يضع فيه جبهته السمحة[20]، وربَّما استيقظتْ من نومها، فتبحث عنه ولا تجده مكانَه، فتغلي سَوْرة الغَيْرة في نفسها، ثم لا تلبث أن تهدأَ حين تسمعه يصلِّي قريبًا منها، وأحيانًا تغاضبه، وتحاول مع بعض صديقاتها من نسائه أن تحتالَ عليه[21].
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «كان النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عند بعض نسائه، فأرسلتْ إحدى أمَّهات المؤمنين بصَحْفة فيها طعام، فضَربتِ التي النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في بيتها يدَ الخادم، فسقطتِ الصحفة فانفلقتْ، فجمع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فِلقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصَّحْفة، ويقول: غارت أمُّكم، ثم حبس الخادِم حتى أتى بصحفة مِن عند التي هو في بيتها، فدَفَع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرتْ صحفتُها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»[22].
وكانت -رضي الله عنها وأرضاها- تُبدي بين الفَيْنة والأخرى شوقًا إلى معرفة مكانتها عندَ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وسرعان ما يتحوَّل هذا الشوق إلى نوع من الزهو والاستمتاع باعتراف الرسول بهذا الحبّ، ومقداره.
فلا معنى للزوجيَّة إلا بهذا الحبّ، ولا قيمة للحبِّ إلا في الإحساس به، والتعبير عنه بهذه اللغة الرقيقة، والألفاظ الشفافة[23].
المبحث الثامن: مرضها ووفاتها رضي الله عنها: مرضتْ أُمُّ المؤمنين عائشة في آخِرِ حياتها مرضًا ألْزمها الفراشَ، وأحاطها الصحابةُ بعنايتهم واهتمامهم بصحَّتِها، فكان يدخل عليها بعضُ الصحابة الذين هم مِن قرابتها، مثل عبدالله بن عباس، فيُثني عليها؛ لتخفيفِ وطأة المرض عنها، ولم تكن تحبُّ أن تسمع مَن يُثني عليها، قالت -رضي الله عنها-: "أثنَى عليَّ عبدالله بن عباس، ولم أكن أُحبُّ أن أسمع أحدًا اليوم يُثني علي، لوددتُ أنِّي كنت نسيًا منسيًّا"[24].
تُوفِّيت -رضي الله عنها- سنة 57هـ؛ وهذا ما قاله هشام بن عروة، وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وقد قيل: إنها مدفونة بغربي جامع دمشق، وهذا غلط فاحش، لم تَقدَم -رضي الله عنها- إلى دمشق أصلاً، وإنما هي مدفونة بالبقيع[25]، وقد صلَّى عليها أبو هريرة بعدَ الوتر في شهر رمضان، ودُفِنت بالبقيع.
وهكذا ننهي هذا المقتبس اليسير من أنْضرِ صفحة، وأطْهرِ صحيفة في صحائفِ النِّساء المسلمات الخالدات- رضي الله عنها وأرضاها.
| |
|