Admin Admin
عدد المساهمات : 359 تاريخ التسجيل : 11/01/2010
| موضوع: حكايات نفسية الخميس يناير 28, 2010 4:21 pm | |
| عاد محمود من مدرسته بعد نهاية اليوم الدراسي وتوجه فوراً إلى غرفته وأغلق الباب من خلفه. كانت والدته بالمطبخ تعد طعام الغداء. هي تعلم أنه يعود مباشرة من مدرسته للمنزل. إنه ليس كبقية التلاميذ الذين يتسيبون في الخارج لبعض الوقت قبل توجههم لمنازلهم بعد مغادرتهم الحافلة المدرسية. كثير منهم يقف في المنحنيات يتجاذبون الأحاديث والطرف والأشقياء منهم يلعبون الكرة بأي شيء يصادفهم حتى ولو كانت علبة مشروب فارغة أو يتمازحون، وقد يتمادون في ذلك لدرجة السباب أو العراك قبل أن ينفضوا ويذهب كل منهم في سبيله. القلة منهم تؤثر الانتظار قليلاً لحين مرور أو توقف حافلات الطالبات لاختلاس النظرة التي اعتادوا عليها يوميا..
كان من عادة محمود أن يمر علي والدته داخل المطبخ محيياً ومازحاً ويتناول شيء مما أعدته لوجبة الغداء على عجل ولكنه في الآونة الأخيرة لم يعد يحفل بالمرور عليها لتحيتها أو لتناول شيء يأكله.هي تشعر بغريزة الأم أن في الأمر ما يقلقها ولكنها تطمئن نفسها ربما عليه بعض الواجبات المدرسية أو يعد نفسه لامتحان. عليها أن لا تنزعج فمحمود يتحمل المسؤولية ويعرف ما يفعل.
محمود شاب في السادسة عشرة من عمره، نحيف الجسم، طويل القامة، وجهه تبدو عليه شيء من الوسامة مع الجدية، خجول، يتفادى الاختلاط بالآخرين وليس له إلا صديق واحد يماثله في الخلق والخلق ويتنافس معه على إحراز المرتبة الأولى في الصف. هما يتقابلان من وقت لآخر لمراجعة بعض الدروس أو الذهاب للمجمع الثقافي لحضور ندوة أو معرض للكتاب. من لا يعرفه جيدا من زملائه في المدرسة يعتقد انه متعجرف و"شايف حاله" ولا يأبه بأحد.
الحقيقة أن محمود ليس بالمتعجرف أو المتعالي بل هو انطوائي بعض الشيء. يأخذ الأمور بجدية زائدة و ليس له وقت يضيعه في اللهو والعبث. يكرس جل وقته للمطالعة والدراسة وشبكة المعلومات الالكترونية. يحبه أساتذته لأدبه الجم ولاهتمامه بدراسته وهم يتوقعون له مستقبلاً باهراً.
وهو كذلك أصغر الأبناء الثلاثة في الأسرة. سامية البنت الكبرى حصلت على الثانوية العامة منذ سنتين ولم يحالفها الحظ دخول الجامعة ولذلك التحقت بأحد المعاهد الأهلية للتدرب على أعمال السكرتارية. أما سعاد البنت الأصغر والتي تكبر محمود بعام فلا زالت بالمرحلة الثانوية وهى تعيد سنتها الثانية بالصف الثاني مما سمح لمحمود أن يلحق بها في الصف الدراسي. سعاد ليست ذكية وليس لديها اهتمامات أكاديمية فهي تقضى معظم وقتها في العزف على آلة الأكورديون والتدرب على تقليد بعض الفنانات و تتمنى أن تصبح يوماً مغنية يشار لها بالبنان.
الوالد حاج عبد الرحمن في العقد الخامس من عمره ويعمل محاسباً بأحد الشركات الخاصة. رجل طيب وفاضل متدين يقضي معظم وقت فراغه متتبعاً الندوات والمسلسلات الدينية في التلفاز.
أما الأم حاجة الرضية فهي مثل اسمها راضية قانعة بنصيبها من الدنيا. لم تنل حظاً من التعليم وقنعت بتكريس عمرها وجهدها لعائلتها. هي تصلى وتدعو الله كثيراً لهم بالتوفيق وأن يصرف العين والحسد عنهم.
في الأسابيع القليلة الماضية لاحظ الوالدان أن محمود فقد كثيراً من شهيته للأكل. يقضى معظم وقته في غرفته متفادياً بقية الأسرة. يبدو كئيباً شاحب الوجه قلقا متوتراً. تجده شارداً سارحاً بعيداً لا يركز على شيء كأنه يعيش في وادٍ آخر. يتحدث باقتضاب وقد يخونه التعبير أو تتوه منه الكلمات أحيانا. أصبح لا ينام جيدا وكم من مرة دخلت عليه أمه في منتصف الليل لتجده مستيقظا يتقلب في فراشه.عند سؤاله عن حاله يجيب بدون اكتراث بأنه على خير ولكن الجميع يشعر بأن الأمر ليس كذلك. أخذه والده للطبيب الذي أجرى عليه كشفاً سرير يا دقيقاً مع بعض الفحوصات فلم يهتد إلى شيء فطمأن الأبوين على أن الأمر لا يعدو أن يكون بسبب ضغوط وصراعات فترة المراهقة التي يمر بها محمود حالياً ووصف له بعض المهدّئات والفيتامينات.
اليوم التالي عاد محمود على غير عادته مبكراً للمنزل. انزعجت والدته كثيرا وهي تراه خائفا ومر تعبا. بعد إلحاحها عليه لمعرفة السبب ذكر لها أن هنالك طالبين في صفه يتربصان به ويتآمران عليه ويقومان بمراقبته طول الوقت منذ فترة. أول الأمر كان يشك في الأمر أما الآن فأنه متيقن من ذلك بعد أن سمعهما يخططان ويتواعدان للاعتداء عليه بعد نهاية اليوم الدراسي. هو لا يستبعد أن تكون لهما علاقة بعصابة ما أو بجهاز استخبارات.
انزعجت الأم كثيرا لما يحدث لمحمود واتصلت بالهاتف لتطلع زوجها بالأمر فوعدها أن يصحب محمود إلى المدرسة في اليوم التالي لاستجلاء الأمر.
وفي صبيحة اليوم التالي كان محمود ووالده عند المدير الذي استمع باهتمام لوالد محمود قبل أن يستدعى الطالبين الذين أنكرا بشدة الاتهام وأكدا احترامهما وإعجابهما بمحمود فلا شيء يجعلهما يكيدان له. مجموعة من نفس الصف برّأت الطالبين وأضافوا أنهم يشعرون في الآونة الأخيرة أن محمود ليس في حالة صحية جيدة. أما أساتذته فقد لاحظوا شروده وتدني مستواه الدراسي مع إهماله لواجباته على غير عادته.
طلب المدير من والد محمود أن يأخذه للطبيب وهذا ما فعله ونصح الطبيب بخلود محمود للراحة بعيداً عن الجو الدراسي وأعطاه بعض العقاقير التي تساعده على الهدوء والنوم.
ساءت الأمور كثيراً في الأيام التالية عندما بدأ محمود يقول أنه يسمع صوت الطالبين وهو في حجرته يتآمران عليه من جديد ويسبانه بأقبح الألفاظ ويعيرّانه بأنه غير مكتمل الرجولة وأحياناً بأنه" مخنث". كثيرا ما سمعته والدته وهو بحجرته يتكلم بصوت عال مع نفسه وأحياناً كانت تسمعه وهو يجادل أو يعارك مجهول. وكم من مرة قام بتحطيم محتويات غرفته ومن بينها جهاز كمبيوتره الخاص متهماً نفس الطالبين بإرسال رسائل على بريده الإلكتروني يسبانه فيها ويتوعدانه.
مع الأيام صار محمود عنيفاً مع أفراد أسرته متهماً أنهم لا يفعلون شيئاً لمساعدته بل يتشككون في ما يقوله لهم خاصة عندما ذكر لهم أن الطالبين يشلان حركة جسمه وتفكيره بتسليط تيار مغناطيسي عليه من بعد وأنهما يستطيعان تعذيبه بأساليب مختلفة مثلاً يستطيعان سحب أفكاره من مخه وتفريغه بالكامل مع إمكانهما دس أو غرز أفكار غريبة عليه وذات محتو ى جنسي وشاذ مكان تلك الأفكار.
جاء الأب ببعض المقرئين لتلاوة القرآن عليه لعل الشيطان داخله يتركه في حاله. وأخيرا أتى احد أصدقاء والده بشخص يتعامل مع الجن واستعمل هذا كل الأساليب المعروفة لديه ومنها الضرب بعصا صغيرة حتى كاد محمود أن يفقد وعيه من الألم إلا أن الجني العنيد لم يستسلم.
اضطر والد محمود لزيارة الطبيب مرة أخرى عندما بدأ محمود يهدد بأن يقضي على حياته لسأمه الحياة ولتخليص نفسه من ذلك العذاب. هذه المرة أسرع الطبيب بتحويل محمود للمستشفي النفسي. وبعد استماع الأخصائي لتفاصيل المرض قرر على الفور إدخال محمود القسم الداخلي بعد أن أوضح للأسرة أن محمود يعاني من أعراض مرض الفصام أو" الشيزوفرينيا" ولام الوالد ضمنيا على التأخر في إحضار محمود للعلاج في وقت مبكر ولكنه طمأن الجميع بمعافاة محمود قريباً.
كان التحسن مضطرداً في صحة محمود للدرجة التي سمحت بخروجه من القسم الداخلي بعد خمسة أسابيع على أن يراجع قسم العلاج النهاري لمتابعة حالته وإخضاعه لعملية تأهيل نفسي واجتماعي قبل عودته لمواصلة دراسته. وعندما قرر عدد من زملائه في الصف زيارته في المنزل لتهنئته بالشفاء أعدت حاجة الرضية والدة محمود ذلك اليوم بعض الطعام والشراب لتقديمه لهم عند حضورهم. لقد كانت بالحق لحظات مشهودة عندما التقى الزملاء وكانت المفاجأة أن كان من بينهم نفس الطالبين الذين كان محمود يتهمهما بالكيد له وإيذائه. اعتذر لهما محمود فتقبلا الاعتذار بتفهم ورضاء تام. كان الزملاء سعداء لرؤية محمود وهو معافى وفي كامل صحته وقضوا وقتاً سعيداً وهم يستعيدون فيه الذكريات ويروون فيها الطرف. وعندما حان الوقت للمغادرة خرج اثنان منهم وعادا من السيارة بجهاز كمبيوتر جديد باسم كل الصف هدية لمحمود وتعويضاً له على جهازه الذي حطمه بنفسه. شكر محمود زملاءه على زيارتهم وهديتهم وكله شوق لليوم الذي يعاود فيه الدراسة والانضمام لزملائه في الصف من جديد.
ملاحظة: راجع مقالة "مرض الفصام" | |
|